قد تكون رواية "موظف عادي جدا"، مجرد خلية مجهرية، مستأصلة من نسيج مجتمع إيطالي في مرحلة ما من القرن المنصرم. وقد لا تعني الكثير لقارئ عربي، يخوض نزاعاته الشخصية، إذا صح القول، بعيداً عن رومانسية الثقافة، ووفقاً لما تقتضيه فلسفة البقاء، وتعزيز شروط الأنا، ودفعها باتجاه الأعلى. من هنا، يبرز إلى الواقع، مجتمع ملون بشتى أطياف العنف، كسمة تدبغ سلوك الكثيرين، وتبين مدى التأثير من خلال طريقة الكلام، أو الفعل، الفردي أو الجماعي كأداة وحيدة لتحصيل الحق. يتبين في مقابل ذلك، مدى الضرر الذي تصاب به شرائح هائلة من المجتمع الواحد، وذل بسبب الارهاق النفسي الذي تفرضه متغيرات وتجاذبات على صعيد السياسة والاقتصاد، ومحسوبيات في أجهزة السلطة، والنفوذ والوزارات. وإذا ما نزحنا بعيداً عن المتعة التي توفرها الأعمال الفنية، والتي تلعب في بعض أوجهها دور العقار المخدر، فإن هناك حياة أخرى وحروب من النوع السلس، والسري، تدور دون توقف، داخل مربع البيروقراط.
ولأن أجزاء العالم لم تعد معزولة عن بعضها البعض، فإن خصائص شخصية ما في عمل درامي أوروبي مثلاً، قد تتقاطع مع شخصية تعيش في عالم عربي، لسبب أن الفردانية التي لم تتعزز في المجتمعات العربية كقيمة إيجابية، يجري العمل عليها في الوقت ذاته، من خلال أنظمة تسعى لمحو مجموعات بشرية، بطريقة أو بأخرى، عبر التأثير سلباً، وبصورة هائلة على الفرد.
"موظف عادي جدا" (الدار العربية للعلوم- دار شرق غرب، ترجمة وسيم دهمش) هي أول روايات فينشيزو تشيرامي، وهو الكاتب الذي عمل في بداية مشواره كمساعد لبيير باولو بازوليني، ليتعلم بذلك الكثير من أسرار الكتابة السينمائية والمسرحية، بما يتحمله كل شكل كتابي من أبعاد، بحسب ارتباطه بالشاشة المسطحة، أو بالخشبة التي تحمل للمشاهد بعدا إضافيا عن الاعمال التي تسجلها الكاميرا. المخزون السينمائي البصري لتشيرامي، كان لا بد له من أن يترك تأثيرا على سياق الحدث وبلورته داخل الرواية، كما وبناء الإضاءات غير المباشرة على الشخصيات المقتضبة في العمل. فالرواية، التي تحمل إسما أصليا هو "البرجوازي الصغير الصغير"، لا تحمل أية فلسفات في ما هو ميتافيزيقي، مع أن بطلها الموظف جيوفاني فيفالدي، هو الشخصية التي تسلم بالقدرية، لكن وبالندية مع الحياة، دون أن تتداخل في مستويات من هم "أعلى شأنا" منها. وهي لا تخوض في البسيكولوجيا، ولا في السوسيولوجيا، بل تقدم الواقع كما هو، وتبدو وكأنها معزولة إلى حد ما عن كل المؤثرات الخارجية، وكل التفاقمات الداخلية، والتعفن الذي أصاب روح جيوفاني، بسبب روتين العمل، والمنصب غير المتغير، طوال تلك السنوات. وهو تعفن غير فج، يغطى بشغفه الاحتفاء بابنه الوحيد ماريو. الأمر يجعل من الموظف في بادئ الأمر، كائنا ودودا، ومحايدا. لا دراية لديه، بما تركه السيستم الاجتماعي، من خراب نفسي. هذا أحد أسرار الكاتب، الذي ينتقل في المرحلة الثانية، ليكشف لنا جهل جيوفاني بنفسه، وعدم ثقته بها، من خلال التحول الذي على وشك أن يصيب بنية العائلة الصغيرة، والذي يبدو ماريو المحاسب (وهذا شيء عظيم للأب)، مفتاحه الوحيد. جيوفاني، سيسعى إلى توظيف إبنه في الوزارة، بمنصب محاسب، فيما يتقاعد هو بالمقابل. المفروض أن يرسم هذا الوضع الجديد، سكة من نوع آخر، للأب الموظف، الذي يحلم بإصلاح كوخه وصيد السمك، وتحسين سبل العيش من خلال معاش تقاعده. هذا هو أحد خطوط العمل السرية، والتي تشي بأن جيوفاني يعزف على منوال البرجوازي الصغير، بشكل عنيد، بل ويسعى للقفز إلى مستوى معيشي أعلى، يؤسس لأسلوب حياة مختلف لماريو الذي ولد في المدينة، والذي لا يفقه شيئا عن القرية، بخلاف أبيه، الذي يرى في المدينة، المكان المثالي للتحول إلى البرجوازية.
لكن اصطدام جيوفاني، بواقع المحسوبيات عند التقدم للوظيفة، يكشف عن معرفة هشة بالذات، إذ يشترط عليه مرؤوسه الدخول إلى المحفل الماسوني. بذلك، ستكون الوظيفة من نصيب الإبن ماريو. جيوفاني الذي لا يمانع الأمر، يجتهد كي يصبح عضوا ماسونيا. الكاتب، يقدم بذلك حجر الأساس لشخصية جاهزة لامتصاص المحيط بشكل طفيلي، ومثير لشفقة في آن. هذه الحادثة تمثل المرحلة الثانية، من مراحل اطلاعنا على مكامن عالم جيوفاني النفسي.
أما المرحلة الأولى، فتقدم بصورة عرضية، لكنها صادمة: جيوفاني وإبنه يصطادان السمك، هما غير محترفين، يحفلان بسمكة، يضربها الأب بحجر ثقيل على رأسها سبع مرات، حتى تموت بشكل تام. من شأن هذا المشهد أن يقدم للقارئ فلاشا سريعا عن عنف متأصل داخل الموظف، وجاهز للإنقضاض على العالم. إضافة إلى أن هذه الحادثة بالذات، تشكل العصب الأساس الذي يتم بناء كل حدث لاحق في الرواية، على أساسه. التقاطع ما بين ما هو غير شخصي- أو عام (المجتمع، زملاء الوظيفة، المحفل الماسوني)، وما هو خاص (الحلم بوظيفة موقرة لإبنه، التقاعد، موت الإبن، مرض الزوجة وموتها) يتم على أساس وجود العنف، كإحدى مسلمات شخصية جيوفاني. والعنف أولا يظهر بشكل مخفف، فالكاتب غير معني بتفسير أسبابه، ولا بتقديم العلاجات. وما على الشخصية المصابة بالعنف المزمن، إلا أن تبقى في هذا الحيز، إلى حين تضافر عوامل اجتماعية، شخصية تحديدا، أو سياسية عامة، إما تهدئ، كأنها مردود نفسي إيجابي، أو تثير هذه النفس.
جيوفاني غير معني بتغيير الواقع، فهو لا يبدو كائنا متأملا، ولا ثوريا بالضرورة، لا تعنيه النظم الإجتماعية، ولا الوظيفية، ولا المتغيرات السياسية، على المستوى اليومي. قطار حياته، يسير بشكل مواز مع خط الواقع. فلا يرى في خريطة هذا الواقع المغلق، سوى بؤرة، يستطيع أن يتغذى على أطرافها كمخلوق بكتيري منعزل. لا يحمل رصيدا سوى كونه بيروقراطي عتيق، موظف مخلص، لعالم الوزارات الخفي. هو يريد فقط أن يستقبله هذا الواقع، أن يسمح له بالانداج فيه، أن يصبح جزءا من طبقة "رفيعة". شهادة إبنه المحاسب هي الرافعة التي ستنشله وزوجته، إلى خانة أخرى، إنه في جانب ما يائس، واليأس هو أول الأشكال المبدئية للعنف.
إن تجاهل جيوفاني لأسباب وضعه الاجتماعي، يعد تنازلا من جانبه. فالمحيط لن يتنازل، عن وقاحته في سبر حياة جيوفاني (مقتل إبنه). ما يخلخل ما بين كفتي ميزان الأخذ (جيوفاني) والعطاء (الحياة ككل). هذه الحياة، المرتهنة بالفساد، لن تنصف جيوفاني الأمين لها. ستتحول ديناميكيتها، أو إيقاعها الجماعي بوجود الزوجة والإبن، إلى إيقاع فردي وبطيء، وخطير بغيابهما. هنا بالتحديد، يتجاوز العمل الأدبي في كليته، الحالة الإيطالية، ليمس الكوني، من خلال الإشارة إلى أن أحلام بائتة كالبورجوازية، لم تعد أساسا نافعا للغة عقل فردي يسعى إلى تحسين حالته الإجتماعية بشرف. فالجريمة العرضية، مثلا، دلالة على إحتمالية عشوائية، غير مضبوطة، مباحة في الشارع، تتيح لنفسها دخول حيوات الآخرين، والمس بأحلامهم غير المؤذية.
مخيلة تشيرامي لصيقة بالواقع، تسير تحت ظله، لكن ذلك لا ينفي مراعاته لنفسه حق الإبداع الذي يعتبر "كريديت" يتمتع به، ولو للحظات طفيفة في العمل، ليخلط ما بين الشعري والهايبو واقعي، إذا صح القول (مشهد انفجار أحد التوابيت في المخزن، جراء انتفاخه بالغاز المنبعث من الجثث المتعفنة، مشهد موت أماليا منفرجة الساقين، ما يضطر السيدة مرغريتا إلى ربطهما بزنار لباس المنزل احتشاما، مشهد الخوري الذي يكره البابا غيرة منه).
هناك خط واحد للسرد، وهو يتشعب لاحقا بين ثلاث شخصيات، كلها جيوفاني. فهناك جيوفاني المنزل، وجيوفاني الوزارة، وجيوفاني المحفل الماسوني. هذا المثلث، يضع الكاتب فيما يشبه، المأزق البنيوي في الرواية، ذلك أن عليه ان يفتش بين الحين والآخر على مفارقات بصرية، من شأنها ان تعطي لكل خط مزايا مختلفة عن الآخر. وهو ينجح في ذلك، وإن أبقى الرواية في المستوى البصري الأفقي الواحد بحكم اعتماده الواقع كمعطى أدبي جاهز. هذه إحدى نقاط الضعف في العمل: عدم التلوين ما بين هو نفسي وما هو مادي. ما بين الداخلي والخارجي. ظل جيوفاني أسير ماديته في العمل، كائنا مسطحا، تافها في بعض الأحيان، وغريزيا. ما شكل أزمة له. وربما إضطر ذلك تشيرامي، إلى أن يضعه داخل قالب درامي شديد القسوة، حزين، محبط وثلاثي الأبعاد (ربما يتوازى مع ثلاثية جيوفاني). فعلى صعيد المنزل، هناك وفاة زوجته. وعلى صعيد الوظيفة، هناك تقاعده. أما بالنسبة إلى خط علاقته بالمحفل الماسوني، فهناك مقتل إبنه. تخترق هذه الخطوط الثلاثة، خط انتقام جيوفاني لإبنه، الذي يعد الذروة المتأخرة في العمل. والذي يجعل من النهاية، مقدمة لرتابة، تشابه الصباحات الآتية، وتعددية التذرع بالوجود. ما يزيد من قوة السرد، هو اللحظة التي يختار فيها تشرامي الحدث، ليجعل منه عقدة كبيرة، تتزاحم داخلها عوامل أو جوانب أو شخصيات من الرواية، فالموت الطازج لماريو، يستتبع سريعا بالقبض على القاتل، وموته بالتالي، ومن ثم موت أماليا زوجة جوفاني. إن هذه الثلاثية في الموت مقصود منها إفراغ جيوفاني. والسخرية من ولائه للشأن العام (أول أيام تقاعده من العمل، هو يوم موت زوجته). هذا الانحسار في الحيز الأشياء المحيطة بحياة جوفاني، يعادل صنفا من أصناف الولادة.
يتحول العمل في الصفحات القليلة الهوسا قسريا بالموت، موت القاتل تحديدا، ذلك أن جيوفاني لم يدفنه جيدا. هنا لا يتخلى السرد عن هيبته ولا يستكين بحكم اقتراب النهاية، لأن في هذا الموت المتذبذب، إيقاعا خفيا يبقي اللحظات الأخيرة من الرواية، متوترة، وشيقة. تشدنا إلى نهاياتها دون أن تستعجلنا، إنه اسلوب يشبه نفخ الأنفاس في رئة غريق، أنفاس متلاحقة لا تتوقف، لذلك فإن حياة الرواية، تستمر إلى آخر رمق ممكن، بالرغم من تورطها بكليشيه الموت كحادثة أخيرة.